العمل الخيري وحكاية من مآثر ومفاخر
كتب: أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف
ahmalassaf@
ــــــــــــــــــ
الكيان ثالث مكونات المجتمع مع الإنسان والمكان، وقد حظي تاريخ الإنسان والمكان بعناية ظاهرة من خلال كتب التراجم والسير والبلدانيات، وهي مكرمة تأخرت عنها الكيانات، وإن برزت أعمال من هذا القبيل بيد أنها لا توازي الكم الهائل من التأليف الذي يناله الناس والأمكنة. وعسى أن تشهد الحقبة المقبلة توثيقًا شاملًا لسيرة الكيانات والمشروعات والأعمال التي انتفع بها الناس، وسعدت منها المواضع والبقاع.
والعمل الخيري والمجتمعي بمعناه الواسع مفخرة للمجتمعات وأهلها، وعلامة إيجابية للأزمنة وأناسها، ولأجل ذلك تسعى الأمم إلى مساندة التطوع ثقافة وتطبيقًا عبر تنظيمات وحزم محفزات. والميدان التطوعي رحب يتسع للمزيد من العاملين والمتعاونين، وبه يجد الإنسان فطرته السليمة التي تتراكم عليها هموم الحياة، ويطمسها الران أو يكاد إلّا من رحم الله، ويسترجع المرء بممارسة الخير تلك الفطرة بنقاوتها وبركتها. ولأهمية التطوع والأعمال المجتمعية في إثراء الشخصية واعتدالها؛ تجبر الأسرة الحاكمة في بريطانيا أفرادها على التطوع مدة ليست بالقصيرة، وهكذا تصنع الأسر العريقة.
أما في بلادنا العربية والإسلامية فالأمر يختلف لأن صنائع المعروف منغرسة في وجدان الفرد العربي المسلم، إذ تأبى عليه مروءته وشهامته إلّا أن يكون حسن الأخلاق كريم النفس واليد، لطيف المعشر، حلو الكلام، ولأجل هذه الخلال العربية الراقية قطع أبناء يعرب الصحراء القاحلة بلا زاد ولا كثير سلاح، اعتمادًا على الكرم والوفاء وحسن العهد، ثمّ جاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق العربية، فأصبحت العادات الجبليّة عبادات يؤجر عليها فاعلوها، وصارت تلك الطباع النبيلة من صميم الشريعة بكمالها وجمالها.
ثمّ إن هذه السجايا الحميدة تتأكد في المملكة العربية السعودية منبع العروبة وموئل الرسالة المحمدية ومأرز الإيمان، ولذلك تتابع الناس على فعل الخير والتعاون لأجله في الضراء قبل السراء، وحفظت التواريخ الشفهية والمكتوبة نماذج من الإحسان لم يمنع منها هجوم أحوال مسغبة على الناس، أو الابتلاء بأوقات خوف، ومن يقرأ-مثلًا- في أحداث سنة الجوع عام (1327)، أو سنة الرحمة عام (1337) وغيرهما يوقن بمصداق هذه النتيجة، ومن يتقصى سير رؤوس الناس وأهل الكرم والنخوة فيهم، سيؤمن بأن الخيرية مغروزة في قلوب رجال هذا المجتمع ونسائه بالجملة، وأنها مختلطة برماله، وممزوجة بمياهه، ومنتشرة في صحاريه وسهوله وجباله وسواحله.
لأجل ذلك سمعنا وقرأنا عن أعمال فردية وجماعية، موجهة لأعيان أو للعموم، وفيها تسبيل وأوقاف، وسقيا، وإطعام، وإيواء، وإغاثة، وتفريج كرب، وسداد ديون، وإسقاط حقوق شخصية، وإصلاح ذات بين، وعلاج مرضى، وتأهيل للعمل، وكفالة أيتام وأرامل، وعون ضعفة وعاجزين، وشفاعات وفكاك أسر، ونشر علم وطباعة كتب، وافتتاح مدارس وبناء مساجد ومساكن، والقائمة تطول من منجزات الأجداد الراحلين رحمة الله ورضوانه عليهم، والله يتقبل منهم أحسن الذي عملوا، بل حتى بعض الأعمال الخدمية ذات المردود المالي بدأت باجتهادات وجهود ومبادرات، وكانت أسعار قسم رمزية أو مجانية أحيانًا، مثل مضخات الماء، ومحطات الكهرباء، وبراميل الوقود.
وهي مسيرة استمرت وتطورت؛ فظهرت الأوقاف ضمن شركات وكيانات، وتوالت المؤسسات الخيرية والأهلية بأنواعها المانحة والمنفذة والوسيطة، ثمّ بزغت كيانات تهدف للدراسة أو التدريب أو التطوير أو ضبط الجودة، وتوافق مع هذا النشاط تطورات تنظيمية حكومية وأهلية، شملت صدور أنظمة وتشريعات، وتكوين وزارات ومراكز ومجالس ولجان. ومن المتوقع أن يتزايد العمل في شقيه التنفيذي والتنظيمي، ليتواكب مع الفاعلية المذهلة للمؤسسات الخيرية، والإقبال الشعبي عليها، مع التفاتة الأجهزة الرسمية إلى هذا المجال التفاتة حكيمة متعاونة.
عليه فمن الضرورة بمكان استرجاع تاريخ العمل الخيري في بلادنا، ويمكن بعد هذا الاسترجاع تخصيص جوانب منه بمزيد بحث ودراسة مستفيضة. وهي فرص ثمينة للدراسة الأكاديمية المرتبطة بالعمل الخيري زمانًا، أو مكانًا، أو نوعًا، أو إنسانًا، أو تنظيمات وأجهزة، ويا له من حقل خصيب يستحق أن يكون له مساحات من البحث الأكاديمي لنيل درجة عليا أو للترقية، وهذا مطلب حري بالجامعات أن تعتني به، وحري بالمؤسسات الخيرية أن تتعاون فيه.
وهاهنا بعض الأفكار المهمة التي تعين على بلوغ هذه الغاية التوثيقية، وتساعد على إصابة الأهداف المأمولة منها:
- تحديد تاريخ لبداية التوثيق دون إهمال النظرة الإجمالية لما قبله، ويمكن أن يكون هذا التاريخ هو عام استرداد الرياض (1319)، أو عام توحيد الدولة (1351).
- الاستعانة بالمرويات الشفهية المحفوظة لدى دارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية، ومركز حمد الجاسر الثقافي، ووزارة الإعلام، وغيرها.
- الرجوع لكتب التاريخ السياسي أو الاجتماعي التي كتبها مؤلفوها عن أحداث أو بلاد أو حقب، وفي بعضها إشارات خيرية تطول أو تقصر.
- فرز الوثائق الرسمية الخاصة بالعمل الخيري والتطوعي، وهي متوافرة لدى مراكز الوثائق والمحفوظات، وفي صحيفة أم القرى، وغيرها من الصحف القديمة.
- قراءة كتب السير الذاتية والغيرية وسلاسل التراجم المتقاطعة مع زمن الدراسة فهي مرجع ثري في الغالب.
- السماع المباشر من رموز العمل الخيري الكبار الذين يستطيعون التذكر والحديث وإدراكهم قبل أن تصعب الإفادة منهم أو تستحيل.
- حثّ الرواة على تدوين ما لديهم من محفوظات تخصّ العمل الخيري أو تسجيلها صوتًا وصورة حسب المتاح.
- الحذر من إهمال زمن، أو بقعة، أو فئة، أو نشاط، فهذا ليس من الإنصاف ولا من السلوك العلمي.
- كتابة المحتوى المقترح لسيرة العمل الخيري في المملكة، ومراجعته، وتكليف لجنة علمية لتأليفه وتحريره ثمّ نشره.
وسيجمع هذا العمل كثيرًا من الفضائل؛ إذ أنه حمى تاريخًا ذا مآثر ومفاخر من الضياع أو النسيان، وأنار طريق المستقبل للمخلصين، وربما فتح الباب لأعمال توثيقية في مجالات أخرى. كما أنه يحيي ذكر نبلاء رحلوا عن عالمنا وهم يستحقون الإشادة والدعاء بالمغفرة والقبول سواء من المنفقين أو العاملين والنظار أو الموظفين الرسميين. وسوف يحول دون الهجوم على توثيق ذلكم العمل المجتمعي الكبير من قبل مستعجل، أو غير ذي أهليّة كاملة، أو صاحب غرض مشوش، أو متاجر يبحث عن مال دون حميد المآل.
كما أنه من المحتمل أن يقود مثل هذا العمل التوثيقي المحكم إلى تمتين أعمال التوثيق الحالية لتكون مادة مناسبة للتأليف في المستقبل، وربما أصبح هذا العمل مرجعًا تعليميًا في المدارس والجامعات، أو انبثقت عنه رسائل وأطروحات، ومن المؤكد أن الوزارات والمجالس المعنية سوف تقبس منه وتستضيء بأنواره، وسيغدو مدخلًا كبيرًا وبابًا شهيرًا ينفذ منه أهل العزائم والقدرة والإخلاص للتطوير والإصلاح والتمكين والاستعداد للمستقبل الجديد.
وقد يصبح مشروع التوثيق المقترح نموذجًا متكاملًا لغيرنا من البلاد القريبة فما بعدها، وهذه الحسنة تكفي بأن ينهض إليه القادرون دونما تأخير، ويتفرغ من أجله الباحثون بلا منافس. وبعد الانتهاء من أعمال التوثيق ربما يناسب تفريغ المحتوى عبر أشكال إعلامية متنوعة صوتية ومرئية، أو نقلها من خلال الرسومات والتصاميم المختصرة، وإتاحة المحتوى عبر روابط ومواقع، والتجربة تعلمنا أن من شرع في العمل الجميل انثالت عليه الأفكار، وانفتحت له سبلٌ كان يظنها موصدة أو متمنعة، وما أجمل المسير على درب غير مطروق فهو سبب في الإمامة التي تستجلب المحمدة في الدنيا، والمثوبة في الآخرة.
المقالات الموجودة في المدونة تعبر عن رأي الكاتب